_ انا خلاص غُلُبت معاه يا صابرين .. الصدمة أثرت علينا كلنا بس نبيل ابني من ساعتها وهو في دنيا تانية .. ده بيقعد باليومين لا بياكل ولا بيشرب وعمال يشرب سجاير .. انا خايفة يحصله حاجة .
ست لابسة اسود وماسكه موبايلها وواقفة في شباك اوضتها وباصة في الشارع على شاب ماشي بشرود وتوهان وبيبعد عن البيت، كانت بتتكلم في الموبايل .. سمعت صوت انثوي من الجهة التانية بتقولها بحزن:
_ لا طبعاً يا حسنات مينفعش .. كدا هيقع من طوله .. انا عارفه كان مرتبط بيه ازاي ومقدره حزنه عليه .. بس بكفيانا حزن بقى .
قالتلها وهي بتقفل الشباك وبتدخل اوضة تانية :
_ كلميه يا صابرين .. هو جايلك دلوقتي .. نبيل ابني بيحب يتكلم معاكي وبياخد بنصيحتك .. انصحيه ربنا يسترك.
ردت عليها صابرين وقالت لها بنفس نبرتها:
_ متقلقيش يا حسنات.. هكلمه حاضر .
قفلت حسنات الموبايل وهي واقفة في اوضة ابنها الي مكركبة لانه كان حابس نفسه فيها يومين، وسط الكركبة واعقاب السجاير والهدوم المرمية وبالتحديد على الكومودينو برواز صغير وفيه نبيل ابنها وهو حاطط ايده على كتف شاب تاني في نفس سنه وهما بيضحكوا.
مسكت حسنات البرواز وقعدت على السرير وبدأت تبكي بحرقة وهي بتضم الصورة على قلبها بحسرة .
____________
صوت خبطات بطيئة بتدل على تعب الطارق وشروده، بتقوم الست صابرين من على كرسي الانترية وبتتحرك علشان تفتح الباب..
_ نبيل حبيبي .. واحشني يا واد .
اترمى نبيل في حضنها وهو بيبوس ايديها وراسها، بلع ريقه بالعافية وبإرهاق قالها :
_ حقك عليا يا ست الكل .. مسألتش عليكي بقالي يومين.. الواحد مبقاش ليه نفس لأي حاجة ولا ليا طاقة حتى اتكلم مع حد.
مسكته من ايده ودخلته وقفلت الباب وراه، مشي نبيل خطوات لجوة الشقة وهو بيبص في الارض ثانية والتانية بيبص على اوضة في اخر الشقة على اليمين، بيحاول يتحاشى النظر وقلبه بيدق بقوة..
بيكور قبضة ايده بقوة وهو مغمض عينه وبيهز راسه هزات خفيفة لما سمع من بعيد صوت بينادي عليه ( تعالى يا عم ادخل علطول واقف ليه هتعمل مكسوف)..
بص على يمينه لقى خيالين لشابين في اوائل العشرينات، بيختفوا قبل ما يدخلوا للاوضة الي على اليمين..
غمض نبيل عينه اكتر وايده بتترعش، لانه سمع نفس الصوت مرة تانية بس المرادي جاي من البلكونة الي قدامه( نازل يا عم .. هجيب الكورة خلاص متصدعنيش .. بقولك ايه.. هنلاعب نفس الفريق.. قشطة يا معلم هنقطعهم).
فتح نبيل عينه وبص للبلكونة ملقاش حد واقف، مسح بيها الشقة كلها، كل شبر فيها بتفكره بذكريات مؤلمة، كان خايف وقلقان من الزيارة دي علشان كدا اجلها لشهور واهو دلوقتي بيندم انه جيه .
_ اقعد يا ابني واقف ليه؟.
اتنفض بعد جملة الست حسنات وتلاشت كل الذكريات من قدامه، كان مديها ضهره .. تمالك نفسه وبص لها وابتسم وبص للكرسي الي وراه وقعد، سمعها بتقوله :
وكأن اخر كلمتين قالتهم غرزوا في صدره سكينة وقلبه اتعصر
وبمجرد ما خلصت كلامها، انهار نبيل بشكل مش طبيعي.. حط ايده على وشه وفضل اكتر من ربع ساعة في الحالة دي، بيعيط والست حسنات واقفة جنبه وحاطة ايديها على كتفه وبتحاول تهدي فيه لكنه كل ما يسمع كلامها ينهار اكتر، قالها وسط بكاؤه:
_ مش قادر .. مش قادر انسى ولا قادر اتعايش خالص والله ما عارف .. اعمل ايه طيب .. بعد الي حصل كنت بكلمك في التليفون لاني خايف اجي هنا .. ودلوقتي ندمت اني جيت لاني شايفه وسامعه حواليا .
مسحت دموعها وقالتله :
_ استهدى بالله .. كلنا لها وما دايم الا وجه الكريم.. ادعيله بدل ما تعمل ف نفسك كدا.
مسح دموعه وبص قدامه على الحيطة، شاف شاب متصور وهو بيضحك وصورته متعلقه قدامه، ابتسم نبيل لما طال النظر للصورة وكأن الشاب بيحاول يواسيه..
قام من مكانه واستأذن منها انه هيدخل الاوضة الي في اخر الشقة.. قالتله :
_ بيتك ومطرحك يا حبيبي .. روح عقبال ما احضر الغدا .. عملااك صنية بطاطس بالفراخ من الي انت بتحبها يا فارس يا نور عيني .
سكتت لثواني ورجعت تقول بتوتر :
_ يقطعني.. قصدي يا نبيل يا ابني .
بص لها نبيل وعيونه مدمعه، شافها وهي بتمشي بالعافية للمطبخ وهي بتبص للصورة الي على الحيطة .
مشي نبيل للاوضة وفتح بابها، الجو مضلم جواها.. قبل ما يفتح النور شم ريحة برفان فكره بذكرى جاتله في دماغه، شتت نفسه علشان يدخل الاوضة ويفتح النور ويقفل وراه الباب.
بعيون مفتوحة وبدون اي رد فعل بدأ يمشي بخطوات بطيئة ويبص على كل ركن وشبر من الاوضة.
اوضة متوسطة الحجم على ارضيتها سجادة كبيرة و سرير مفروش .. فوق السرير لوحة جوة برواز كبير وجنبها ساعة حائط قديمة عقاربها ثابتين وقدام السرير دولاب صغير لونه اسود نفس لون المكتبة الي جنب الدولاب وعلى المكتبة كتب كتير محطوطين فوق بعض..
وجنب الدولاب من الجهة التانية مكتب عليه جهاز لاب توب مقفول وجنبه إكسسوارات من مصحف صغير و ساعة وحظاظة محطوطين جنب بعض.
بوسترات وصور للعيبة كورة من مصر واوروبا ملزوقين على الحيطان.
بيبص نبيل على كل تفصيلة موجودة في الاوضة، مشي خطوتين وفتح الدولاب، هدوم متعلقين على شماعات وغيرهم مطبقين فوق بعض بانتظام على الرف العلوي من الدولاب، وعلى الارضية كورة متهالكة على شكل اعلام منتخبات وجنب الكورة جزمتين.. واحدة جديدة والجزمة التانية باتا لونها ابيض مقطوعة من قدام ومتهالكة زيها زي الكورة..
وطى نبيل على ركبته ومسك الكورة وهو مبتسم والدموع في عيونه، بمجرد ما مسكها سمع صوت طفولي بيتردد في دماغه:
( هات كورتي يا مجنون .. بقولك هات الكورة )
قام من على الارض وهو بيحضن الكورة، بص وراه وقعد على طرف السرير والحديث في دماغه بيدور من جديد لما كان في عمر ال١٠ سنين :
( انت مش بتسمع ولا ايه.. بقولك هات كورتي بدل ما نضربك)
كان صوت طفل واقف ووراه مجموعة من الاطفال باصين على نبيل وهو ماسك الكورة وبيبص عليهم بابتسامة، بيلعبوا في الشارع بلبس مدرسة.. فيهم الي لابس القميص والي رابطه حوالين وسطه.
نبيل واقف قدام دكان محطوط فوق بابه يافطة بإسم (مكتبة الأمل)..
اتكلم نبيل وقال للطفل الي قدامه:
_ عايز العب معاكوا .
رد عليه الطفل وقاله :
= هات بس الكورة وهنلاعبك معانا.
اداله نبيل الكورة وهو مبسوط، بمجرد ما الطفل خد الكورة قال لنبيل :
_ ضحكت عليك .. خليك في المكتبة بتاعت ابوك.. مش هتلعب معانا .
زعل نبيل ورجع لكرسي ورا فاترينة الازاز جوة المكتبة وحط ايده على خده وهو بيتفرج عليهم.
—
قام نبيل من على الكرسي واتحرك للدولاب وحط الكورة جواها وهو بيقوم وقع ما بين الهدوم تي شيرت لونه اسود صغير، وهو قايم مسكه وقربه على وشه وبدأ يشمه وهو مغمض وجواه قلبه بيتعصر وبيقول وسط حرقته ودموعه ( واحشني يا فارس .. واحشني اوي يا صحبي .. كان نفسي تكون معايا دلوقتي ).
فضل نبيل واقف عند الدولاب وهو ماسك التي شيرت الي شايل ذكرى اول تعارف بينه وبين صاحبه فارس..
على شط اسكندرية وقبل شروق الشمس، بيتمشى نبيل على الشط بعد واقعة الكورة والطفل بكام يوم.. من بعيد سمع صوت صرخات وشاف عفار وغبار حاجبين الرؤية عنه، كل ما بيقرب يسمع اصوات الصرخات بتعلى، جري ووصل لقى ٥ اولاد عاملين شكل دايرة وفي وسطهم ولد وبيضربوا فيه بقوة..
زق نبيل او ولد قدامه اتخبط في ولد تاني في نفس سنه وقعوا على الارض، لاحظ ولد تالت الي حصل جري على نبيل وضرب نبيل بالرجل، رجع نبيل لورا من قوة الضربة، مسك تراب في كف ايده ورماه عليه.. مسك الولد وشه وهو بيتوجع .. وطى نبيل ومسك تراب بايده الاتنين وبدأ يحدفها عليهم لحد ما مجموعة من الشباب شافوا الخناقة فضوها .
راح نبيل علشان يطمن عليه لقى دم نازل من راسه.. قومه من على الارض وقرب من البحر ومسح الدم من راسه، اتفاجيء الطفل بوجود نبيل واتفاجيء نبيل هو التاني بإن الطفل هو نفسه صاحب واقعة الكورة والي رفض يلاعبه معاه.
مد الولد ايده لنبيل وقاله :
_ شكراً.. انت لحقتني .
قاله :
= مافيش حاجة .. المهم انت كويس ؟.. صحيح هما كانوا بيضربوك ليه؟.
ضحك الولد وقال لنبيل :
_ كانوا بيتخانقوا مع علاء صاحبي وانا لحقته بس سابني وجري واتضربت انا مكانه.. مقولتليش اسمك ايه؟.
رد عليه نبيل وقاله اسمه.. وسأله هو كمان عن اسمه .. ف رد عليه الولد وقاله :
_ فارس .. اسمي فارس.
لما نبيل شاف راس فارس لسه بتنزف على بسيط، قلع نبيل تي شيرته الاسود الي كان مترب بسبب الخناقة واداه لفارس علشان يحطه على الجرح..
ومن هنا بدأت الصداقة بينهم بعد اليوم ده، وبدأت تقوى أكتر وأكتر لما اتفقوا كل يوم قبل المغرب انهم يتقابلوا عند الشط وفي نفس المكان.. ومع الوقت صارح نبيل فارس بكل حاجة في حياته وقاله :
_ تعرف يا فارس .. انت اول واحد يضحك معايا ويقعد معايا كدا من غير ما يزهق مني .. اصلهم بيقولوا عليا اخرس ومجنون .. علشان يعني مش بتكلم مع حد ودايما قاعد في مكتبة بابا .. يمكن علشان اتعود على كدا .. مانا لما بطلع البيت بقعد في اوضتي لواحدي برضو .. هكلم مين وانا معنديش اخوات وبابا فقير معهوش فلوس يدخلني المدرسة زي مانتوا بتروحوا كل يوم.. بس انا مش اخرس .. انا مش مجنون يا فارس.
في الفترة دي بعد فارس عن صحابه واحد ورا واحد بعد ما الكل اتريقوا عليه بسبب نبيل الي بيقولوا عليه جاهل واخرس، والكل بيتهموه بالجنون وفارس هو الي بدأ يدافع عنه.
—
بيفوق نبيل وبيبعد التي شيرت عن وشه وبيبوسه وبيرجعه مكانه في الدولاب، وقبل ما يقفله بص على الكوتشيين وهو بيضحك ضحكة خفيفة لما افتكر كلامه لفارس لما قاله :
_ هتفضل تلعب بالكوتش ده كتير يا فارس .. يا ابني هتتعور انا خايف عليك.
ضحك فارس وقاله :
_ مبعرفش العب غير بيه.. عارف يا نبيل .. انا قدمت في اختبارات نادي سموحة وجيت على نفسي واشتريت كوتش جديد .. لعبت بيه بالعافية وقبلوني .. انت عارف صاحبك حريف .. بس تاني تمرين مقدرتش اروح بالجديد وروحت بده لما شافوني مشوني بسببه.
—
بيقفل نبيل باب الدولاب ومعاه باب ذكرياتهم الطفولية البريئة، بص مرة تانية حواليه..
عينه جت على اللوحة المتعلقة جنب الساعة فوق سرير فارس، لوحة فيها رسمة بالقلم الرصاص ل فارس وهو في العشرينات من عمره.
الرسمة باين فيها انه بيضحك وسعيد.
مشي نبيل خطوتين ولمس اللوحة ومع لمسه ليها افتكر كلام فارس لما قاله في يوم :
_ ريهام يا نبيل هي الي رسمالي الصورة دي ..شوف.. حطتهالي في برواز بقى وحركات.
رد عليه نبيل وهما قاعدين على الشط وامواج البحر بتلاعب رجليهم ونسيمه بيداعب وشهم :
_ بس انت مش فرحان يا فارس!! .. صوتك .. نظراتك .. رد فعلك .. لا يا صحبي في حاجة أكيد.
قام فارس من مكانه وهو بينفض بنطلونه وقال لنبيل :
_ مش عايز اظلمها معايا يا نبيل.. انا بحب وفاء اختها وهما جيرانا من زمان .. اول ما وعيت على الدنيا لقيت وفاء قدامي .. هي اه اكبر مني بسنتين بس ده ميمنعش اني اتعلقت بيها اكتر من ريهام.
اتصدم نبيل بس دارى صدمته بسرعة وبص في الارض لثواني وكأنه بيحاول يتمالك اعصابه، قام نبيل من على الارض وهو بيقول لفارس بحيرة والتوتر باين على ملامحه:
مسك فارس طوبة ورماها في البحر بكل قوة، سكت ثواني وقال لنبيل الي كان باصص عليه بترقب :
_ مش هقدر اقولها يا نبيل .. مش هقدر.
حط نبيل ايده على كتف صاحبه واتمشوا خطوات في سكوت وفجأة وقف نبيل ومعاه فارس وهو بيبصله وسمع نبيل بيقوله :
_ لقيتها يا فارس .. انا هضرب عصفورين بحجر واحد .. بما ان ريهام وووفاء بييجوا عندي المكتبة علطول ف انا هتكلم مع ريهام واصارحها بكلامك وفي نفس الوقت هكلم وفاء عليك.. قولت ايه يا صحبي.
حك فارس دقنه لدقيقة وهو بيراجع فكرة نبيل وفي النهاية ابتسم ووافق على فكرة نبيل.. ومشيوا هما الاتنين بعيد واصوات ضحكاتهم بتعلى اكتر.
—
_ نبيل.. افتح يا ابني .
اتنفض نبيل وهو واقف وحاطط ايده على البرواز، مسح دموعه بسرعة وهو بيرد على ام فارس وبيقولها وهو بيمشي للباب :
_ ايوة يا امي انا جاي اهو .
فتح باب الاوضة لقاها واقفة ماسكه صنية عليها فنجان قهوة، بص على الفنجان بصمت وسمعها بتقوله :
_ كتير عليك يا ابني .. مش قولتلك استهدى بالله علشان خاطرنا .
بلع نبيل ريقه وهو بياخد فنجان القهوة بإيد مرتعشة، سكت ولما طال سكوته ام فارس قالتله وهي بتقفل الباب :
_ خليك على راحتك يا حبيبي .. اشرب قهوتك على ما احضر الاكل .
قفلت الباب ونبيل ماسك فنجان القهوة وبيروح يقعد على كرسي المكتب وبيحط الفنجان عليه، كل الي بيعمله انه باصص للفنجان وهو ساكت .
فنحان ابيض مدور عليه صورة فارس، وصوت الاخير بيتردد في ودان نبيل ( هعزمك على قهوة من البُن بتاعي .. بس هصبهالك في كوباية ازاز .. اصلي معنديش الا الفنجان بتاعي .. وطبعاً مش هشربك منه.. مش كفايا داخل علينا ايد ورا وايد قدام) .
بياخد نبيل رشقة من الفنجان وبيرجعه تاني على المكتب وهو باصص على صورة فارس و بيقول بصوت مسموع :
_ اول مرة يا صحبي تخليني اشرب في الفنجان بتاعك.. تعرف .. طعم القهوة فيه حلو اوي .
ضحك ضحكة عالية بس اختفت في لحظات وهو لسه بيبص بشرود على الصورة وبيكمل وبيقول :
_ اول مرة اكدب عليك في حاجة .. ايوة انا بكدب يا فارس .. والله بكدب .. ما هو مافيش حاجة حلوة من بعدك .. ومش عارف اعيش .. لو كنت هنا كنت قولتلي اعمل ايه.. حاسس بحيرة يا صحبي ومتاهة مش عارف اخرج منها.
مسك الفنجان مرة تانية بس ملحقش يشرب، ووقع منه على السجادة وقام جري تجاه صرخة ام فارس الي سمعها جاية من برة الأوضة !!.
نهاية الجزء الأول..
يتبععع..
والأخير
لما سمع نبيل صوت صرخة ام فارس صاحبه، فتح باب الاوضة بسرعة و ارتباك.. جري على المطبخ لقى ام فارس قاعدة على كرسي في المطبخ وماسكه ايديها وعماله تقول (ابني .. ابني).
لما وصلها نبيل وسألها حصل ايه، بصت له وقالتله وهي مذهولة :
_ ش..شوفت ابني يا نبيل.. فارس .. كان واقف هنا دلوقتي .
وشاورت بصباعها تجاه الحمام المقابل للمطبخ والي بينهم ستارة، بص نبيل تجاه الحمام الي نوره مطفي وبابه مقفول، طبطب على كتفها وقالها :
_ وريني بس ايدك .. يا خبر ابيض .. انتي اتلسعتي يا امي .. استني هنزل اجيبلك مرهم واجيلك.
نزل وسابها وسط شرودها وهي عماله تردد اسم فارس وباصه على باب الحمام..
نزل نبيل من للبيت لاحظ ان الليل ليل عليه، بيت فارس بينه وبين البحر يا دوب شارع..
بص نبيل للبحر من بعيد .. مشي بسرعة وبعد نظره عنه وكأنه بيرفض يلبي ندا البحر ليه، اترسم الغضب على ملامحه وبيقول لنفسه ( انا بكرهك .. بكرهك مبحبكش .. مبقتش صاحبي زي زمان).
وبخطوات سريعة راح اقرب صيدلية وجاب مرهم وخرج من الصيدلية، طلع بيه جري للبيت ولما دخل لقاها قاعدة نفس قعدتها، مسك ايديها برفق ودهن المرهم على مكان الجرح وبعد ما خلص باس ايديها، بدأت تبكي وهي بتقول لنبيل :
_ شوفته يا نبيل .. لقيته واقف وباصصلي .. انا عارفه بصته دي لما بيكون جعان.. خصوصاً لما اعمله صنية البطاطس بالفراخ الي بيحبها .. كنت ماسكة الصنية بحتة قماش ولما شوفته معرفش ايه الي حصل لقيتني عايزة اجري عليه لكن فجأة اتلهست ف ايدي ولقيت الحتة وقعت مني وماسكة الصنية بايدي .. فارس جعان يا نبيل .. انا حاسة بيه.
باس على راسها وقالها :
_ الصبح يا امي .. الصبح هروح له واوزع على روحه رحمه .. اطمني يا حبيبتي واستريحي بقى كفايا عليكي انا هحطلك تاكلي .
هزت راسها بالنفي وقالتله وهي بتديله ضهرها :
_ انا قربت اخلص الاكل .. اه يا وجع قلبي عليك يا فارس .
خرج نبيل برة المطبخ وهو باصص على اوضة فارس ولاحظ وقوع الفنجان والبن على السجادة.. دخل المطبخ مرة تانية وجاب حتة قماش مبلولة وراح للسجادة.. وطى وبدأ يمسح البُن.. وبدأت من بعيد ذكرى تقرب منه بمجرد ما بص للسجادة الكبيرة .
فارس ونبيل شايلين السجادة على اكتافهم وماشيين بيها في الشارع، وقف نبيل مرة واحدة وقال لفارس :
_ انا تعبت يا فارس .. السجادة تقيلة اوي يا عم.
رد عليه فارس وهو بينهج وقاله:
_ بقى رجالة بشنبات طوال عراض عندهم ٢٤ سنة ومش قادرين على سجادة زي دي .. اتصدق عندك حق .. دي تهمة بس اعمل ايه بقى في ام فارس .. عادة عندها مايجيش علينا العيد والسجادة وسخة على أساس ان العيد هيبوظ .. يلا يا نبيل .. خلاص قربنا .
وبالفعل مشيوا لحد ما وصلوا للمغسلة وسابوا هناك السجادة، وقف فارس مع واحد من عمال المغسلة في نفس الوقت الي بعد عنه نبيل ووقف لواحده في محاولة منه انه يرتب الكلام الي عايز يقوله لفارس في دماغه، ولما شاف فارس جاي عليه سأله الاخير وقاله :
_ ولا يا نبيل .. مالك؟ .. متخبيش انا عارفك كويس.
ضحك نبيل وقال لفارس :
_ بص هقولك بس متزعقليش زي اخر مرة .. الصراحة وفاء سألتني عليك وعايزة تشوفك .. استنى بس يا فارس اسمعني.. شوفها يا عم عيزاك ف ايه .. مش هتخسر حاجة .
غضب فارس وقال لنبيل :
_ مش كنا اتكلمنا في الموضوع ده قبل كدا .. ده لولا ريهام جت قالتلي الموضوع كله مكنتش عرفت .. انت عملت الي عليك وبلغت ريهام ووفاء بكل حاجة زي ما قولتلي .. وانا حر في اني اخد قراري يا نبيل .. وانا قررت لا هحب ريهام ولا وفاء.
قاله نبيل بتلقائية:
_ ليه بس؟.
رد فارس بسرعة وقاله :
ضحك نبيل بارتباك وقال لفارس :
_ يا عم انا مش بحبها .. وبعدين افرض .. انا خلاص مبقتش افكر فيها .. علشان خاطري روح وقابلها .. اخلص بقى .
سكت فارس شوية وقال لنبيل :
_ بتعمل كدا ليه يا نبيل .. بتدوس على قلبك ليه يا اخي ؟.. انت ليك حق تحب وتتحب .. مافيش حد مثالي وييجي على نفسه علشان صاحبه.
—
= واموت نفسي علشان اشوفك مبسوط يا فارس .. سامع .
قام نبيل من على السجادة وهو ماسك حتة القماش وبص لنفسه في المرايا واكتشف انه قال الجملة الأخيرة لنفسه وهو واقف في الاوضة !!.
وكأنه كان عايش الذكرى..
لاول مرة من شهور عينه تيجي في المرايا ويشوف نفسه فيها، دقنه وشعره طوال بشكل ملفت، سواد كتير تحت عينه الدبلانة المطفية.. جسمه خس كتير..
افتكر ايام زمان لما كانت الحيوية وعنفوان الشباب في دمه.. مكنش شايل للدنيا هم ومكنش بيسمح للحزن يدخل قلبه ولو للحظة لانه واثق دايما انه لو وقع هيلاقي الي يتسند عليه زي العكاز.
راح وفتح اللاب توب وبدأ بصعوبة يجيب الفولدر الي فيه صوره مع فارس .. والي كان مكتوب على الفولدر ( صاحب عمري)..
فتح الفولدر لقى اكتر من ألف صورة تحت بعض، بعينه مسحهم بسرعة، كل صورة فيهم شايله ذكرى جميلة في قلب نبيل.
ذكريات من السعادة قدروا يسرقوا منها لحظات عبارة عن صورة ساكته..
دي لما اشترى لبس العيد لما كانوا لسه صغيرين وقرروا يروحوا يتصوروا عند المصوراتي..
والصورة دي لما قرر نبيل انه يعمل مفاجأة لفارس يوم عيد ميلاده..
ودي في جامعة فارس وهو لابس لبس التخرج ونبيل شايله وهو بيضحك من قلبه ..
اما الصورة دي بقى فكانت يوم قراية فاتحة فارس ووفاء..
ظاهرين في الصورة بالدبل ونبيل واقف ورا فارس صاحبه وعلى وشه اكبر علامات السعادة والفرح لصاحب عمره..
وهو بيشوف الصور لقى ڤيديو لفارس، شغله وبدأ يتفرج عليه، هو عارف الفيديو ده كويس لان هو الي صوره لفارس لما كان بيعمل كورة في الشارع..
ناس كتير واقفين بيتفرجوا عليه وهو بيرقص واحد واتنين وبيجيب بدل الجول اربعة.
وفي كل جول يجري على نبيل وهو بيضحك للكاميرا، وفي اخر الفيديو بيعمل نبيل زوم للكوتش القديم الي لابسه فارس وقاله وهو بيضحك:
_ اقلع الكوتش ده يا عم بقى .
ضحك فارس وهو بينهج وبيبصله وبيقوله ( مانت عارف يا صحبي .. ده غالي عليا ) .
طول الفيديو ونبيل عمال يشجع فارس، مهتمش بنظرات وتريقة الناس الي واقفين حواليه.
بيقفل الفيديو وبيقلب في باقي الصور..
مستحملش اكتر من كدا وقفل اللاب.. المكتبة الي عليها اللاب فيها كذا درج تحت بعض، فتح اول درج .. لقى دوسيه وفيه وتحت منه ورق كتير بجانب حاجات تانية مش مهمة..
فتح تاني درج لقى صندوق لونه ازرق.. عرفه نبيل اول ما شافه لان هو الي جابه لفارس يوم التخرج وكان جواه ساعة، مسك الصندوق وفتحه، لقى جواه نوتة صغيرة لونها احمر وعليها قلم، مسك النوتة وجيه علشان يفتحها سمع ام فارس بتنادي عليه، قام من على الكرسي وراحلها..
قعدوا مع بعض على السفرة وقبل ما يبدأوا ياكلوا، راحت ام فارس فتحت النيش وجابت تسجيل قديم كان موجود جوة النيش وجنبه شرايط كتير .. فضلت تقلب فيهم لحد ما جابت شريط بعينه وحطته في التسجيل وشغلته..
راحت على الكرسي وقعدت وبعدها نبيل وبدأوا ياكلوا على صوت عبدالحليم حافظ وهو بيغني ( قارئة الفنجان ) في سكوت الا من اصوات خبط المعالق في الاطباق الازاز، لحد ما بعد دقايق اتكلمت ام فارس وقالت لنبيل:
_ مبقتش اعرف اكل الا على صوت العندليب .. زي فارس بالظبط.. ايوة ما هو الي عودني على كدا .. وبالذات الغنوة دي .. كان بيعشقها .
نبيل كان قاعد وبيبص على ام فارس الي كانت مستمتعة بالاغنية، اما هو فقام من على الاكل واستأذن منها علشان يمشي، مسكت فيه لكنه رفض وكان محتاج يشم شوية هوا، وقبل ما يمشى اتأكد انها مش محتاجة حاجة.
لما نزل العمارة استسلم لصوت ندا البحر.. عدى الشارع وراح يقف على الشط، بص للبحر وهو بيكشر وبيكور ايده.. لسه هيتكلم مع نفسه، بيبص على يمينه لما سمع صوت شابين مكنش شايف ملامحهم كويس.. واحد بيقول للتاني :
_ مش قادر انا زهقت خلاص .. مافيش حل غير الي قولتلك عليه .
وقف الشاب ورد عليه بغضب وقاله :
_ لا انا بقولك لا.. كله الا ده .. كام واحد بيروح من السكة دي مبيرجعش يا اخويا .. فوق واستهدى بالله واصبر .
رد الاول وقاله :
_ بعد كل سنين التعليم دي في الاخر اتخرج والشهادة تبقى في الدرج!!.. مش انا الي اقعد في البيت زي الستات .. مش دي شخصيتي .. لو بلدي مش مقدراني يبقى اسافر لبلد تانية تقدر موهبتي وطموحي.
نبيل كان واقف بيسمعهم بعيون مبرأه لان الصدفة الغريبة انه اتكلم هو وفارس في نفس الموضوع وتقريباً في نفس المكان الي هما واقفين فيه!!.
وتلقائي افتكر كلامه لفارس لما قاله :
_ اصبر تاني يا صاحبي وحاول علشان خاطري .
سكت فارس شوية وهز راسه لنبيل بالموافقة، ابتسم نبيل لانه في باله قدر يقنع فارس انه يبعد موضوع السفر من دماغه.
لما فاق نبيل من ذكراه ملقاش حد واقف في المكان غيره!!.
ايده جت على جيبه، خرج النوتة الحمرا وفتحها .. اكتشف ان في كلام بخط فارس اول مرة يشوفه.. كانت رسالة من فارس ليه، وبدأ يقرأ :
( سامحني يا صاحبي.. انا اضطريت اوافقك بس الي كنت مخبيه عنك اني محضر نفسي وخلاص النهاردة هطلع على مركب بعد نص الليل .. متخافش يا ولا .. فارس بطل ولو حصل ايه انا قدها .. كل ما في الامر اني عايز ابقى حاجة كبيرة .. جوايا احلام مش هتتحقق غير برة مصر.. عايزك بس تسامحني لانك من بكرة مش هتعرف عني حاجة على الاقل الفترة دي على بس ما اوصل واشتغل وابعتلك جوابات .. مش هكدب عليك انا متوتر شوية واعصابي سايبه وقلبي شوية مقبوض .. علشان كدا لو حصلي حاجة عيش حياتك يا نبيل لاني عارفك وحافظك.. الحياة قطر بيمشي في سكته ومبيقفش في محطات .. كلنا في الدنيا دي بنتولد علشان نموت .. هتوحشني يا صاحبي.. بالله عليك ادعيلي .. اما النوتة تقع تحت ايدك ادعيلي .. وصيتي ليك امي الي مالهاش غيري في الدنيا .. هجيبلك احلى بدلة علشان تحضر بيها فرحي على وفاء .. انا مش قايلها اني هسافر في البحر.. ف لو غيابي طال طمنها اني راجع بإذن الله تعالى .. انا خلصت الي كنت عايزك فيه وهطمن قلبك انا خدت المصحف الي انت جيبتهولي معايا .. انا هسيبلك النوتة جوة الصندوق .. ودلوقتي هروح انام في حضن امي .. مين عارف .. يمكن يكون اخر حضن ).
فضل نبيل يقرأ رسالة فارس الاخيرة اكتر من عشر مرات وف كل مرة بكاؤه يزيد اكتر واكتر، وبعد اخر مرة قفل النوتة وبص للبحر وقاله بصوت عالي زي المجنون :
_ ليه ؟.. ده كان بيحبك وكان اكتر واحد يفضفض معاك .. انا كنت بحبك بس دلوقتي لا .. انا بكرهك .
انهار نبيل ووقع ركبته لما تخيل اخر مشهد شافه فارس وهو في عرض البحر ..
فارس مات غرقان في نفس اليوم الي سافر بيه ومش هو وبس لا .. اكتر من ٢٠٠ شاب ماتوا بعد ما وقعت المركب بيهم، ولحسن الحظ .. فارس كان من القليلين الي غفر السواحل قدروا يلاقوا جثته.
٢٠٠ حلم مات .. ٢٠٠ شاب طموح ساب وراه ناس بيحبوه وبيتمنوا يرجع تاني علشان واحشهم ويهديهم من آلم فراقه الي عصر قلوبهم ..
عدت وبتعدي ايام كتير، لو ثبتنا المشهد على قبر فارس وجرّينا الوقت بسرعة هنلاقي يومياً نبيل بيزور صاحبه وبيقعد جنبه بالساعات يحكي ويفضفض وبيمشي..
يوم بيجيب يوم بيجيب شهر بيجيب سنة بيجيب التانية ..
ولسه المشهد ثابت والوقت سريع مابين ضوء الشمس وهدوء القمر بيظهر نبيل ومع مرور السنين نبيل بيتغير بالتدريج .. لحد بعد كام سنة وفي يوم المشهد اتغير وظهروا مجموعة من الرجالة واولهم نبيل شايلين نعش وبيدخلوه جنب فارس..
الوقت بيمر والكل مشي وقبل غروب الشمس وقف نبيل ما بين القبرين وهو بيقول وهو مش قادر يمسك نفسه من الانهيار والبكى :
_ امك ماتت يا صاحبي .. ماتت اخر حد من نَفسك ودمك .. بس متزعلش .. انا دفنتها جنبك وانتوا اكيد بتحضنوا بعض دلوقتي .. كانت بتحبك اوي يا فارس وطول الوقت بتكلمني عنك .. قولي يا حبيبي .. اتكلم مع مين دلوقتي.. مين هيسمعني بعدك انت وطنط حسنات.. مين بس؟.. مين؟.
بتمر السنين اكتر وبعد مرور سنين كتير.. بينزل نبيل من تاكسي بعد ما السواق فتحله الباب وهو بقوله :
_ متأكد يا عمنا مش عايز اي مساعدة؟.
هز نبيل راسه بالنفي من غير ما يتكلم.. حاسب السواق والاخير خد الفلوس ومشي، فضل نبيل واقف ثواني وهو متسند على عجازه وباصص للمقابر بتأمل.. بدأ ياخد خطواته لجوة الترب ببطء.
شعره شاب وجلد وشه وايده كرمش بس برغم كل ده الا ان لسه ملامحه متغيرتش، في عز نهار الصيف والحر الشديد بيدخل نبيل حواري الترب لحد ما وقف عند باب قبر .
ضحك وهو بياخد نفسه بالعافية وبيقول :
_ عامل ايه النهاردة يا صحبي .. اديك شايف انا بقيت عامل ازاي .. بقيت مكحكح رجل برة ورجل جوة .
كمل كلامه وهو بيكح وقال :
_خلاص يا فارس .. كلها ايام واجيلك .. ايوة هجيلك هو انا هسيبك .. مانا كتبت لولادي وصية اني لما اموت اتدفن جنبك.
حاولت انفذ وصيتك على قد ما اقدر .. صحيح الموضوع كان صعب عليا اوي في اوله لكن اهو .. كل ما كنت اقع ابص في النوتة واقرأ كلامك تاني .. عارف يا فارس .. انا قريت كلامك اكتر من ٥٠٠ مرة .. وقعت كتير وملقتش غير سيرتك الطيبة والذكريات الي سيبتهالي اتسند عليهم .. واهو عيشت حياتي.. اتجوزت ريهام وبقى عندي فارس ووفاء
دوشتك يا صحبي بس اديك عارف.. مافيش حد بيستحملني غيرك وانت عايش بتسمعني وانت ميت كمان.. اه يا ضهري.
صحيح يا فارس قبل ما امشي.. انا قررت اسيبلك دي .
وحط ايده في جيب بنطلونه وخرج النوتة الحمرا.. بص فيها وكأنه بيملي عينه منها ورجع بص لقبر فارس وقال :
_ انا هسيبلك دي .. مش عارف ايه السبب بس يمكن لان رجلي مبقتش شيلاني زي الاول ويا عالم هجيلك تاني ولا هبقى جنبك للابد .
بص نبيل للنوتة وهو بيقولها :
_ يااااه .. اكتر من ٤٠ سنة وانتي معايا مفارقتنيش لحظة .. ماتزعليش مانتي رايحه للغالي .. يا بختك.. والله يا بختك.
حطها على قبره وودع صاحبه ووالدته ومشي..
بعد الزيارة دي بكام يوم اتوفى نبيل محمد العوضي الى رحمة الله تعالى .. وزي ما كتب في وصيته لأولاده .. اتدفن جنب صديق عمره .
تمت.